كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معًا، كما مر في قول: {إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} ولا يصح أن ينتصب من أخذوا، لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. انتهى.
وتقدم الكلام معه في مجيء الحال مما قبل إلا مذكورة بعد ما استثنى بإلا، فيكون الاستثناء منصبًا عليهما، وأن جمهور البصريين منعوا من ذلك.
وأما تجويز ابن عطية أن يكون بدلًا، فالبدل بالمشتق قليل.
وأما قول الزمخشري: لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها، فليس هذا مجمعًا عليه، لأن ما بعد كلمة الشرط شيئان: فعل الشرط والجواب.
فأما فعل الشرط، فأجاز الكسائي تقديم معموله على الكلمة، أجاز زيد أن يضرب اضربه، وأما الجواب فقد أجاز أيضًا تقديم معموله عليه نحو: إن يقم زيد عمرًا يضرب.
وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال: المعنى: {أينما ثقفوا} أخذوا ملعونين، والصحيح أن ملعونين صفة لقليل، أي إلا قليلين ملعونين، ويكون قليلًا مستثنى من الواو في لا يجاورونك، والجملة الشرطية صفة أيضًا، أي مقهورين مغلوبًا عليهم.
ومعنى {ثقفوا} حصروا وظفر بهم، ومعنى {أخذوا} أسروا، والأخيذ: الأسير.
وقرأ الجمهور: {قتلوا} بتشديد التاء؛ وفرقة: بتخفيفها، فيكون {تقتيلًا} مصدرًا على غير قياس المصدر.
والظاهر أن المنافقين انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول والمؤمنين، وتستر جميعهم، وكفوا خوفًا من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه، وهو الإغراء والجلاء والأخذ والقتل.
وقيل: لم يمتثلوا للانتهاء جملة، ولا نفذ عليهم الوعيد كاملًا.
ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد، ونهيه عن الصلاة عليهم، وما نزل فيهم في سورة براءة؟ وأبعد من ذهب إلى أنه لم ينته هؤلاء الأصناف، ولم ينفذ الله الوعيد عليهم، ففيه دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة، ويكون هذا الوعيد مفروضًا ومشروطًا بالمشيئة.
{سنة الله} مصدر مؤكد، أي سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ظفر بهم.
وعن مقاتل: كما قتل أهل بدر وأسروا، فالذين خلوا يشمل أتباع الأنبياء الذين نافقوا، ومن قتل يوم بدر.
{يسألك الناس} أي المشركون، عن وقت قيام الساعة، استعجالًا على سبيل الهزء، واليهود على سبيل الامتحان، إذ كانت معمى وقتها في التوراة، فنزلت الآية بأن يرد العلم إلى الله، إذ لم يطلع عليها ملكًا ولا نبيًا.
ولما ذكر حالهم في الدنيا أنهم ملعونون مهانون مقتولون، بيّن حالهم في الآخرة.
{وما يدريك} ما استفهام في موضع رفع بالابتداء، أي: وأي شيء يدريك بها؟ ومعناه النفي، أي ما يدريك بها أحد.
{لعل الساعة تكون قريبًا} بين قرب الساعة، وفي ذلك تسلية للممتحن، وتهديد للمستعجل.
وانتصب قريبًا على الظرف، أي في زمان قريب، إذ استعماله ظرفًا كثير، ويستعمل أيضًا غير ظرف، تقول: إن قريبًا منك زيد، فجاز أن يكون التقدير شيئًا قريبًا، أو تكون الساعة بمعنى الوقت، فذكر قريبًا على المعنى.
أو يكون التقدير: لعل قيام الساعة، فلوحظ الساعة في تكون فأنث، ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في قريبًا فذكر.
{يوم تقلب وجوههم في النار} يجوز أن ينتصب يوم بقوله: {لا يجدون} ويكون يقولون استئناف إخبار عنهم، أو تم الكلام عند قولهم: {ولا نصيرًا}.
وينتصب يوم بقوله: {يقولون} أو بمحذوف، أي اذكر ويقولون حال.
وقرأ الجمهور: تقلب مبنيًا للمفعول؛ والحسن، وعيسى، وأبو جعفر الرواسي: بفتح التاء، أي تتقلب؛ وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة.
وقال ابن خالويه عن أبي حيوة: نقلب بالنون، وجوههم بالنصب.
وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة أيضًا وخارجة.
زاد صاحب اللوامح أنها قراءة عيسى البصري.
وقرأ عيسى الكوفي كذلك، إلا أن بدل النون تاء، وفاعل تقلب ضمير يعود على {سعيرًا} وعلى جهنم أسند إليهما اتساعًا.
وقراءة ابن أبي عبلة: تتقلب بتاءين، وتقليب الوجوه في النار: تحركها في الجهات، أو تغيرها عن هيئاتها، أو إلقاؤها في النار منكوسة.
والظاهر هو الأول، والوجه أشرف ما في الإنسان، فإذا قلب في النار كان تقليب ما سواه أولى.
وعبر بالوجه عن الجملة، وتمنيهم حيث لا ينفع، وتشكيهم من كبرائهم لا يجدي.
وقرأ الجمهور: {سادتنا} جمعًا على وزن فعلات، أصله سودة، وهو شاذ في جمع فيعل، فإن جعلت جمع سائد قرب من القياس.
وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وقتادة، والسلمي، وابن عامر، والعامة في الجامع بالبصرة: ساداتنا على الجمع بالألف والتاء، وهو لا ينقاس، كسوقات ومواليات بني هاشم وسادتهم، رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم.
قال قتادة: سادتنا: رؤساؤنا.
وقال طاوس: أشرافنا؛ وقال أبو أسامة: أمراؤنا، وقال الشاعر:
تسلسل قوم سادة ثم زادة ** يبدون أهل الجمع يوم المحصب

ويقال: ضل السبيل، وضل عن السبيل.
فإذا دخلت همزة النقل تعدى لاثنين؛ وتقدم الكلام على إثبات الألف في الرسولًا والسبيلا في قوله: {وتظنون بالله الظنونا}.
ولما لم يجد تمنيهم الإيمان بطاعة الله ورسوله، ولا قام لهم عذر في تشكيهم ممن أضلهم، دعوا على ساداتهم.
{ربنا آتهم ضعفين من العذاب} ضعفًا على ضلالهم في أنفسهم، وضعفًا على إضلال من أضلوا.
وقرأ الجمهور: كثيرًا بالثاء المثلثة.
وقرأ حذيفة بن اليمان، وابن عامر، وعاصم، والأعرج: بخلاف عنه بالباء.
{كالذين آذوا موسى} قيل: نزلت في شأن زيد وزينب، وما سمع فيه من قاله بعض الناس.
وقيل: المراد حديث الإفك على أنه ما أوذي نبي مثل ما أوذيت.
وفي حديث الرجل الذي قال لقسم قسمه رسول الله: إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فغضب وقال: رحم الله أخي موسى، لقد أوذي أكثر من هذا فصبر.
وإذاية موسى قولهم: إنه أبرص وآدر، وأنه حسد أخاه هارون وقتله.
أو حديث المومسة المستأجرة لأن تقول: إن موسى زنى بها، أو ما نسبوه إليه من السحر والجنون، أقوال.
{مما قالوا} أي من وصم ما قالوا، وما موصولة أو مصدرية.
وقرأ الجمهور: {وكان عند الله} الظرف معمول لوجيهًا، أي ذا وجه ومنزلة عند الله تعالى، تميط عنه الأذى وتدفع التهم.
وقرأ عبد الله، والأعمش، وأبو حيوة: عبد من العبودية، لله جر بلام الجر، وعبدًا خبر كان، ووجيهًا صفة له.
قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ: وكان عبد الله، على قراءة ابن مسعود.
قال ابن زيد: {وجيهًا} مقبولًا.
وقال الحسن: مستجاب الدعوة، ما سأل شيئًا إلا أعطي، إلا الرؤية في الدنيا.
وقال قطرب: رفيع القدر؛ وقيل: وجاهته أنه كلمه ولقبه كليم الله.
والسديد: تقدم شرحه في أوائل النساء.
وقال ابن عباس: هنا صوابًا.
وقال مقاتل، وقتادة: سديدًا في شأن زيد وزينب والرسول.
وقال ابن عباس، وعكرمة أيضًا: لا إله إلا الله، وقيل: ما يوافق ظاهره باطنه؛ وقيل: ما هو إصلاح من تسديد السهم ليصيب الغرض؛ وقيل: السديد يعم الخيرات.
ورتب على القول السديد: صلاح الأعمال وغفران الذنوب.
قال الزمخشري: وهذه الآية مقررة للتي قبلها.
بنيت تلك على النهي عما يؤدي به رسول الله، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى، واتباع الأمر الوعد البليغ، فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.
انتهى، وهو كلام حسن.
{إنّا عرضنا الأمانة} لما أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله وسداد القول، ورتب على الطاعة ما رتب، بيّن أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم، فقال: {إنّا عرضنا الأمانة} تعظيمًا الأمر التكليف.
والأمانة: الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا.
والشرع كله أمانة، وهذا قول الجمهور، ولذلك قال أبيّ بن كعب: من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها.
وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، والظاهر عرض الإمانة على هذه المخلوقات العظام، وهي الأوامر والنواهي، فتثاب إن أحسنت، وتعاقب إن أساءت، فأبت وأشفقت، ويكون ذلك بإدراك خلقه الله فيها، وهذا غير مستحيل، إذ قد سبح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام، وحن الجذع إليه، وكلمته الذراع، فيكون هذا العرض والإباء حقيقة.
قال ابن عباس: أعطيت الجمادات فهمًا وتمييزًا، فخيرت في الحمل، وذكر الجبال، مع أنها مع الأرض، لزيادة قوتها وصلابتها، تعظيمًا للأمر.
وقال ابن الأنباري: عرضت بمسمع من آدم، عليه الصلاة والسلام، وأسمع من الجمادات الإباء ليتحقق العرض عليه، فيتجاسر على الحمل غيره، ويظهر فضله على الخلائق، حرصًا على العبودية، وتشريفًا على البرية بعلو الهمة.
وقيل: هو مجاز، فقيل: من مجاز الحذف، أي على من فيها من الملائكة، وقيل: من باب التمثيل.
قال الزمخشري: إن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به، فأبى محمله والاستقلال به، وحملها الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته.
{إنه كان ظلومًا جهولًا} حيث حمل الأمانة، ثم لم يف بها.
ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء به القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم.
من ذلك قول العرب: لو قيل للشحم أين تذهب لقيل: أسوي العوج.
وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات! وتصور مقالة الشحم محال، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه؛ فصوّر أثر السمن فيه تصويرًا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس، وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف؛ وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها.
فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد: أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حال تميله وترجحه بين الرأيين، وتركه المضي على إحداهما بحال من يتردى في ذهابه، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه، وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، فليس كذلك ما في الآية.
فإن عرض الأمانة على الجماد، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم، فكيف صح بها التمثيل على المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئًا، والمشبه به غير معقول.
قلت: الممثل به في الآية، وفي قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب؟ وفي نظائره مفروض، والمفروض أن يتخيل في الذهن.
كما أن المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحال المفروض، لو عرضت على السموات والأرض والجبال {فأبين أن يحملنها وأشفقن منها}. انتهى.
وقال أيضًا: إن هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها، وهو ما تأتى من الجمادات، حيث لم يمتنع على مشيئته إيجادًا وتكوينًا وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة.
كما قال: {قالتا أتينا طائعين} وأما الإنسان، فلم يكن حاله فيما يصح منه من الانقياد لأوامر الله ونواهيه، وهو حيوان صالح للتكليف، مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد.
والمراد بالأمانة: الطاعة، لأنها لازمة للوجود.
كما أن الأمانة لازمة للأداء، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز.
وحمل الأمانة من قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، يريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها، وهو حامل لها.
ألا تراهم يقولون: ركبته الديون؟ ولي عليه حق؟ فأبين أن لا يؤدونها، وأبى الإنسان أن لا يكون محتملًا لها لا يؤديها.
ثم وصفه بالظلم لكونه تاركًا لأداء الأمانة، وبالجهل لخطئه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها.
انتهى، وفيه بعض حذف.
وقال قوم: الآية من المجاز، أي إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأيتهما أنهما لا تطيقها، وأنها لو تكلمت، لأبتها وأشفقت عنها؛ فعبر عن هذا المعنى بقوله: {إنا عرضنا} الآية، وهذا كما تقول: عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد بذلك مقارنة قوته بثقل الحمل، فرأيتها تقصر عنه؛ ونحوه قول ابن بحر معنى {عرضنا} عارضناها وقابلناها بها.
{فأبين أن يحملنها} أي قصرن ونقصن عنها، كما تقول: أبت الصنجة أن تحمل ما قابلها.
{وحملها الإنسان} قال ابن عباس، وابن جبير: التزم القيام بحقها، والإنسان آدم، وهو في ذلك ظلوم نفسه، جهول بقدر ما دخل فيه.
وقال ابن عباس: ما تم له يوم حتى أخرج من الجنة.
وقال الضحاك، والحسن: وحملها معناه: خان فيها، والإنسان الكافر والمنافق والعاصي على قدره.
وقال ابن مسعود، وابن عباس أيضًا: ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه هابيل، وكان قد تحمل لأبيه أمانة أن يحفظ الأهل بعده، وكان آدم مسافرًا عنهم إلى مكة، في حديث طويل ذكره الطبري.
وقال ابن إسحاق: عرض الأمانة: وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات.
والحمل: الخيانة، كما تقول: حمل خفي واحتمله، أي ذهب به.
قال الشاعر:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ** وتحمل أخرى أخرجتك الودائع

انتهى.
وليس وتحمل أخرى نصًا في الذهاب بها، بل يحتمل لأنك تتحمل أخرى، فتؤدي واحدة وتتحمل أخرى، فلا تزال دائمًا ذا أمانات، فتخرج إذ ذاك.
واللام في {ليعذب} لام الصيرورة، لأنه لم يحملها لأن يعذب، لكنه حملها فآل الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك، ويتوب على من آمن.
وقال الزمخشري: لام التعليل على طريق المجاز، لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب، كما أن التأديب في: ضربته للتأديب، نتيجة الضرب.
وقرأ الأعمش: فيتوب، يعني بالرفع، بجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدىء ويتوب.
ومعنى قراءة العامة: ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها، لأنه إذا ثبت على أن الواو في وكان ذلك نوعان من عذاب القتال. انتهى.
وذهب صاحب اللوامح أن الحسن قرأ ويتوب بالرفع. اهـ.